الحجاز كانت مهد الفصاحة ومهد اللغة الفصيحة وبلهجة أهله نزل الآي الحكيم والقرآن المعجز. واللغة المعجمية بمفرداتها ودلالاتها ما زالت عربية قحة فصيحة، قد يعتري بعضها تغيير في النطق كالابتداء بالساكن، أو فتح مضموم أو كسره.
بيد أن الدارس للهجاتنا الحجازية يكاد لا يقع على كلمة دخيلة إلا ما كان له علاقة بمحدثات المخترعات أو مستورد الأفكار الحديثة نوعًا ما؛ بل كثير من المفردات التي قد يستغربها جيل هذه الأيام، هي في أصلها فصيحة نطقًا وتلفظًا واستعمالًا ودلالة، وتجدها في المعجمات، وتجد لكثير منها شواهد شعرية أو نثرية.
وسنذكر بعض الأمثلة للاستئناس بها.
يقول الحجازيون للحبل الذي يثبت الخيمة طنب بضم ثم سكون وهو فصيح بضمتين، قال عدي ابن الرقاع:
تظلُّ القنابل يكسونه ** رواقًا من النقع لم يطنبِ
ويقولون للمرأة الخرقاء التي لا تحسن التدبير رفلاء وللرجل أرفل، وفي لسان العرب “ورجُل أَرْفَلُ ورَفِلٌ أَخْرَق باللباس وغيره، والأُنثى رَفْلاء وامرأَة رافلة ورَفِلة تَجُرُّ ذيلها إِذا مشت وتَمِيس في ذلك، وقيل امرأَة رَفِلة تتَرَفَّل في مِشْيتها خُرْقًا فإِن لم تحسن المشي في ثيابها قيل رَفْلاء”.
ويقولون نقز ينقز أي قفز، وهي فصيحة جاء في لسان العرب “نقز الظبي ينقز نقزًا ونقزانًا إذا وثب في عدْوه” .
ويقولون حط فلان الكتاب على المكتب، زي وضعه، وفي اللسان “الحطُّ : الوضْعُ، نقول: حطّه يحُطّه حطًا”.
ويقولون شرواك أي مثلك وشروى فلان أي مثله، وفي اللسان “وشَرْوَى الشيءِ مِثلُه، واوُه مُبدَلَةٌ من الياء؛ لأنّ الشيءَ إنّما يُشرَى بمِثله، ولكنّها قُلبتْ ياءً كما قُلبتْ في تقوَى. يقال: هذا شَرْواهُ وشَرِيُّهُ”.
ويقولون خنقتني العبرة أي غلبني البكاء وهو فصيح مليح، قال أبي الشيص الخزاعي:
وقد خنَقتها عَبرة، فدموعها ** على خدّها بِيض وفي نحرها صُفرُ.
ويقولون لمن لا يمكن الفكاك من أذاه أو سؤاله أو جداله أو فضوله نشبة، جاء في القاموس المحيط “قال الأعرابي: كنتُ نشْبة فصرتُ عقبة! وهو الرجل الذي ينشب ويتعلّق بشيء ولا يكاد ينفك عنه”.
وقولهم للغافل عن الشيء: يا فاهِي! أو يا مفهي! من الفصيح؛ ففي المعجم: فَها عن الشيء بمعنى: سَها عنه.
ويقولون أَشْوَى بمعنى أفضل أو أخف ضررًا ولها استعمالات كثيرة، وهي على صيغة أفعل من الشوى الذي يعني: الهيّن اليسير كما في مقاييس اللغة لابن فارس.
ويقولون فلان مزنوق أي يمر بضائقة، وفي مقاييس اللغة: “الزاء والنون والقاف أصل يدل على ضيق أو تضييق”.
وقولهم للمكان الغليظ تجتمع فيه الحجارة والرمل والطين أبرق، وتصغيره في اللهجة الحجازية بويرق ويصح تصغيره أبيرق.
ومن شواهده الشعرية قول الشريف المرتضى:
ولكم توسد في القلال نمارقا ** فالآن نوسده صعيد الأبرق
وفي تصغيره قال مهيار الديلمي:
أكنت بصحراء الأبيرق صارخي ** بعد ذلك عن بث الهوى أم محرضي
ولو أردنا أن نسرد مئات الكلمات الحية في لهجاتنا الحجازية ونؤصلها فسنخرج بمعجم كبير جدًا، يدل دلالة قطعية أن اللهجات الحجازية لهجات فصيحة معجميًا، وما تزال تحافظ على كلمات فصيحة قلّ استعمالها في الكتابة الأدبية لكنها ما تزال حية مستعملة في الحياة اليومية في الحجاز، يتكلم بها الناس ولا يستوحشون منها ولا يستغربون منها.